السياسة بين الكتمان والتضليل- قراءة في خفايا التحليل السياسي

المؤلف: علي بن محمد الرباعي10.10.2025
السياسة بين الكتمان والتضليل- قراءة في خفايا التحليل السياسي

في عالم السياسة، يُعتبر الكتمان فضيلة، فالسياسة الرصينة التي تسعى إلى تحقيق غايات نبيلة تستلزم السرية التامة، والتحفظ الشديد على الأدوات والاستراتيجيات المستخدمة، وذلك حمايةً لها من العبث والتشويه، ومن تدخل المتطفلين الذين يسعون للمزايدة عليها. هذا الكتمان هو حِكرٌ على ذوي الخبرة والاختصاص، الذين لا يفصحون إلا عن قدر ضئيل جداً من المعلومات، فالساسة أذكى وأكثر دهاءً من المحللين السياسيين، الذين يظنون واهمين أنهم قد أحاطوا بكل الاحتمالات الممكنة، ليتفاجأوا بأن السياسة تفتح لهم آفاقاً جديدة لم تخطر لهم على بال، فالسياسي كالزئبق، كلما اعتقدت أنك أمسكت به أفلت من بين يديك.

قبل ما يقارب الثلاثين عاماً، تجرأت شاعرة شعبية مرموقة، لتؤكد أن فهم دهاليز السياسة وتحليل معطياتها ليس حكراً على فئة معينة من الرجال، الذين يجيدون رصف الكلمات وتنميق العبارات، دون سواهم. ورغم أن قوات التحالف الدولي في بداية التسعينيات لم تكن قد بدأت بعد عملية تحرير دولة الكويت الشقيقة من براثن الاحتلال العراقي الغاشم، إلا أن شاعرتنا استبقت الأحداث، وبشرت بالفرج، وصدقت رؤيتها الثاقبة للأوضاع، وقالت بلسان الواثق في معرض لعب نسائي :(وجا مع جيمس بيكر دولة مستقلة). وقد كان لها ما أرادت، ففي هذه القفلة الشعرية معنى خفيّ يرفع من قدر العروس، بالإضافة إلى المعنى السياسي الظاهر، وكانت هذه الشاعرة أول محللة سياسية تتحقق نبوءتها، رغم أن أغلب النساء اللاتي كن يلعبن معها لم يعرفن من هو (جيمس بيكر) ولم يدركن الدور المحوري الذي قام به في تلك الفترة الحاسمة.

وفي مشهد فكاهي من مسرحية "المتزوجون"، يسأل الفنان القدير (جورج سيدهم) الفنان الكوميدي (نجاح الموجي): "قل لي يا فتى يا مزيكا، ما الذي تعرفه عن سياسة الوفاق؟" فيجيبه (نجاح الموجي) بكل بلاهة: "يعني يا سعد من جمع راسين بالحلال"، فيرد عليه (جورج سيدهم) بتعجب: "دي سياسة أمك".

للسياسة فرسان يسطرون المجد، ولها ضحايا يدفعون الثمن غالياً، ولها تجار يبيعون ويشترون، وسماسرة يقتاتون على الفتات، وربما انطبق على الحبكة السياسية ما ينطبق على الشعر من إحكام وتفكيك، ومن الحماقة أن يثق المحلل بنفسه ثقة عمياء، تصل إلى حد ادعاء العلم بما يُطبخ في أروقة السياسة من وجبات دسمة لا تقبل الهضم، فالغوص عميق، والاعتبارات تزيد وتنقص باستمرار، وهذا ما يعيدنا إلى فن شعر النقائض، وتحديداً قول الفرزدق:

ويقضى الأمر حين تغيب تيمُ

ولا يُستأمرون وهم شهود

ومن عجائب الأمور أن يتناول البعض قضايا سياسية معقدة وغامضة، وكأنها في غاية الوضوح والجلاء، فيطرح وجهة نظره بكل ثقة واعتداد، بينما يتردد في طرحها كبار وزراء الخارجية، وربما لا يتجرأ الخبير المتمرس في الشأن السياسي على قول ما يجاهر به بعض العامة من الناس، علماً بأن ما يقدمه المحلل السياسي قد يكون في كثير من الأحيان مجرد تحليل موجه، لا يمت إلى حقيقة الأمر بصلة، فهو يخمن ويرجح كفة رأي يحسب له، أو في أسوأ الأحوال يحسب عليه.

لا جدال في أن ميدان السياسة ليس ملعب كرة قدم تقام فيه مباريات بين فرق وأندية، فنرى فيها وجوه الإيجابية والسلبية، وليس حلبة سباق يجري فيها العداؤون، فنتابع الأسرع والأبطأ، فهناك الكثير مما يُدار بين الدول في الخفاء، وفي الغرف المظلمة، ولا يُعلن عنه إلا بعد مرور عقود طويلة من الزمن، ولذا عندما نعود لتحليل تحليلات المحللين في قضية (ووتر جيت) أو (إيران جيت) وغيرهما من القضايا التي مرت بنا، ندرك أن الفارق شاسع وبعيد جداً بين التحليل والتسييل السياسي.

ومما كشف عنه النقاب مؤخراً أن أحد الزعماء العرب الراحلين، الذي كان يشتم الإمبريالية ليل نهار، لم يكتف بتعليق صورة (كوندليزا رايس) في غرفة نومه، بل كتب فيها قصيدة غزلية، مستوحاة من قصيدة عنترة بن شداد التي عبر فيها عن رغبته في تقبيل السيوف لأنها تلمع كبريق ثغرها المتبسم، ما دفع آخر زوجاته الشرعيات إلى التوجه إلى القبلة والدعاء عليه بالويل والثبور، وبسوء العاقبة والمصير، لأنه كسر قلبها بقصة عشق أطرافها غير متكافئة.

وكم من دول أوهمنا المحللون الأجانب والعرب بأنها قادرة على تدمير العالم بضغطة زر، وسرعان ما انكشف المستور، وغدا حماها مباحاً للجميع، فالبلاد التي تسقط طائرة رئيسها بسبب الإهمال وعدم الصيانة دولة يرثى لها أكثر مما يخشى منها، وربما الذي ضخم قدرات صدام حسين ليغدو ضحية في العيد الكبير هو ذاته الذي بالغ في تفصيل ثوب أكبر من حجمه.

تحكي لنا قصة واقعية بأن موظفاً ظل يحلم بسماع كلمة إطراء من زميلة عمل، وكان يعتني بها ويهتم لأمرها صباح مساء، وعندما اقترب منها ذات يوم ليسمع كلمة شكر أو تقريظ، فاجأته بقولها: "غطوا بك لأم التخوم (الوجه وجه الضب، والمؤخرة مؤخرة الدب)،" فانهارت قواه، وغاب عن العمل أياماً عدة، منهاراً بسبب هذه الإهانة، وشاءت الأقدار أن يترقى ويصبح رئيساً لها، فأخذت تردد على مسامعه كلما رأته أو دخلت عليه بصوت جهوري: (يا مليح القفا وحلو التثني، وجميلاً جماله كم فتنني)، وبالطبع كان يعلم أنها تنافقه نفاقاً، ومن باب استهلاكها كان يبدي لها بعض الرضا المصطنع.

ومن ذكريات طلبة الجامعة، أن زميلين ذهبا إلى أحد الأسواق بهدف اختبار مهاراتهما في استمالة قلوب الغيد الحسان، وكان الجريء منهما قصير القامة، فغمز لإحدى السيدات، فقالت لزميله الأطول: (خذ المقفص للبيت حان موعد رضاعته، وخله يشوف نفسه في المراية نصفه قفيز ونصفه ....). وصار ذلك الشاب القصير من يومها شاباً تقياً، لا يرفع بصره إلى أي سيدة، وإن كانت النظرة الأولى مباحة، فنسأل الله له الثبات والتوفيق.

لا أتصور البتة أن أي كاتب أو محلل سياسي يتمكن من التعبير بصدق وأمانة عن قرار دولة، أو سياسة قيادة، أو مشاعر مسؤول، لأن المعلومة غالباً ما تكون غير متوفرة، والكثير من المحللين لم تصدق تحليلاتهم وتوقعاتهم، فتحججوا بأنهم لا يعلمون الغيب، ولا يضربون بالودع، وبهذا لا نستطيع مساءلتهم أو محاسبتهم، على الرغم من أنهم ضحوا بأبرياء، وخدعوا شعوباً بالشعارات البالية.

ويمكن لنا أن نسلم بواقع أدبياتنا العربية التي تعج بالتناقض في المواقف والمشاعر، وحقاً (ما كل معلن صواب، ولا كل خاف خطأ)، فالسياسة هي "فن الممكن"، وهذا يعني أن التلميح أبلغ من التصريح في كثير من الأحيان وأكثر أماناً، ومضمون الطرح يخضع للنسبية، إذ لا مجال للقطعية والجزم، بل استشراف المستقبل، وتوقع النتائج والمخرجات، لاسيما أن معظم المحللين ليسوا على وفاق وثيق بالسياسيين كما كان الحال في الماضي، حين كانوا في صف واحد.

إيماءة: التوقعات لا تصنع واقعاً، ولا تشفي جراحاً غائرة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة